السيد محمد باقر الصدر
قلنا في الأجزاء السابقة إن خط علاقات الإنسان مع الطبيعة مختلف مشكلة وقانوناً عن خط علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان، وذكرنا انّ هذين الخطين كلّ واحد منهما مستقل استقلالاً نسبياً عن الخط الآخر، لكن هذا الاستقلال النسبي لا ينفي التفاعل والتأثير المتبادل إلى حد ما، بين هذين الخطين، فلكلّ منهما لون من التأثير الطردي أو العكسي على الخط الآخر، وهذا التأثير المتبادل بين الخطين يمكن ابرازه ضمن علاقتين قرآنيتين بين هذين الخطين، العلاقة الأولى تبرز مدى تأثير خط علاقات الإنسان مع الطبيعة على خط علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان.
والعلاقة القرآنية الثانية تبرز من الجانب الآخر مدى تأثير علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان على علاقات الإنسان مع الطبيعة. أما العلاقة الأولى التي تبرز تأثير علاقات الإنسان مع الطبيعة على الخط الآخر فمؤدي هذه العلاقة هو أنّه كلما نمت قدرة الإنسان على الطبيعة، واتسعت سيطرته عليها، وازداد اغتناءً بكنوزها، ووسائل انتاجها، تحققت بذلك امكانية أكبر فأكبر للاستغلال على خط علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان (كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق/ 6-7)، هذه الآية الكريمة تشير إلى هذه العلاقة إلى انّ الإنسانية بقدر ما تتمكن وتستقطب الطبيعة وتتوصل إلى وسائل انتاج أقوى وأدوات توليد أوسع، تكون انعكاسات ذلك على حقل علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان، انعكاساته على شكل امكانيات واغراءات وفتح الشهية للأقوياء لكي يستثمروا أداة الانتاج في سبيل استغلال الضعفاء.
تصوروا مجتمعاً يعيش على الصيد باليد والحجارة والهراوة، مثل هذا المجتمع لا يتمكن من أن يمارس بذور الأقوياء، بذور الوحوش فيه لا يتمكنون على الأغلب من أن يمارسوا أدواراً خطيراً من الاستغلال الاجتماعي، لأن مستوى الانتاج محدود والقدرة محدودة وكل إنسان لا يكسب عادة بعرق جبينه إلّا قوت يومه، فلا توجد امكانية الاستغلال بشكله الاجتماعي الواسع وأن كان توجد ألوان أخرى من الاستغلال الفردي، ولكن لاحظوا من الجانب الآخر مجتمعاً متطوراً استطاع الإنسان فيه أن يصنع الآلة البخارية والآلة الكهربائية، استطاع فيه أن يخضع الطبيعة لإرادته، في مثل هذا المجتمع سوف تكون الآلة البخارية والآلة الكهربائية المعقدة المتطورة الصنع تكون أداة امكانية على ساحة علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان، تشكل بحسب مصطلح الفلاسفة ما بالقوة للاستغلال ويبقى ان يخرج ما بالقوة إلى ما بالفعل وذلك على عهدة الإنسان ودوره التاريخي على الساحة الاجتماعية، فالإنسان هو الذي يصنع الاستغلال، هو الذي يفرز النظام الرأسمالي المستغل حينما يجد الآلة البخارية والكهربائية، ولكن الآلة البخارية والكهربائية هي التي تعطيه امكانية هذا الاستغلال، هي التي تهيئ له فرصة تفتح شهيته، توقظ مشاعره، تحرك جدله الداخلي وتناقضه الداخلي من أجل أن يبرز صيغة تتناسب مع ما يوجد على الساحة من قوى الانتاج ووسائل التوريد.
وهذا هو الفرق بيننا وبين المادية التاريخية، المادية التاريخية اعتقدت بأنّ الآلة هي التي تصنع الاستغلال، هي التي تصنع النظام المتناسب لها، ولكننا نحن لا نرى ان دور الآلة هو دور الصانع، وانما دور الآلة هو دور الامكانية، دور توفير الفرصة والقابلية، وأما الصانع الذي يتصرف ايجاباً وسلباً، أمانة وخيانة، صموداً وانهياراً، انما هو الإنسان وفقاً لمحتواه الداخلي، لمثله الأعلى، لمدى التحامه مع هذا المثل الأعلى، هذه هي العلاقة الأولى.
وأما العلاقة القرآنية الثانية التي تمثل وتجسد تأثير علاقات الإنسان مع الطبيعة، فمؤدي هذه العلاقة القرآنية هو أنّه كلما جسدت علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان العدالة وكلما استطاعت ان تستوعب قيم هذه العدالة وان تبتعد عن أي لون من ألوان الظلم والاستغلال من الإنسان لأخيه الإنسان، كلما وقع ذلك، ازدهرت علاقات الإنسان مع الطبيعة وتفتحت الطبيعة عن كنوزها. وأعطت المخبوء من ثرواتها ونزلت البركات من السماء، وتفجرت الأرض بالنعمة والرخاء.
هذه العلاقة القرآنية هي العلاقة التي شرحها القرآن الكريم في نصوص عديدة، قال سبحانه وتعالى: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) (الجن/ 16).
(وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ...) (المائدة/ 66).
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف/ 96)، هذه العلاقة مؤداها ان علاقات الإنسان مع الطبيعة تتناسب عكسياً مع ازدهار العدالة في علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان، فكلما ازدهرت العدالة في علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان أكثر فأكثر ازدهرت علاقات الإنسان مع الطبيعة، وكلما انحسرت العدالة عن الخط الأوّل انحسر الازدهار عن الخط الثاني، أي ان مجتمع العدل هو الذي يصنع الازدهار في علاقات الإنسان مع الطبيعة، ومجتمع الظلم هو الذي يؤدي إلى انحسار تلك العلاقات، علاقات الإنسان مع الطبيعة، وهذه العلاقة ليست ذات محتوى غيبي فقط، نعم نحن نؤمن أيضاً بمحتواها الغيبي ولكن اضافة إلى محتواها الغيبي الرباني هي تشكل سنة من سنن التاريخ بحسب مفهوم القرآن الكريم وذلك لأن مجتمع الظلم، مجتمع الفراعنة على مرّ التاريخ مجتمع ممزق، مشتت، الفرعونية على مرّ التاريخ حينما تحكم في علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان تستهدف تمزيق طاقات المجتمع، وتشتيت فئاته، وبعثرة امكانياته، ومن الواضح أنّه تشتيت وبعثرة وتفتيت وتجزئة من هذا القبيل لا يمكن لأفراد المجتمع ان يحشدوا قواهم الحقيقية والسيطرة على الطبيعة.
وهذا هو الفرق بين المثل العليا المنخفضة الفرعونية وبين المثل الأعلى الحق مثل التوحيد سبحانه وتعالى، فإنّ المثل الأعلى يوحد الجامعة البشرية ويلغي كل الفوارق والحدود باعتبار شمولية هذا المثل الأعلى، باعتبار شموليته فهو يستوعب كل الحدود وكل الفوارق، يهضم كل الاختلافات، يصهر البشرية كلها في وحدة متكافئة، لا يوجد ما يميز بعضها عن بعض، لا من دم ولا من جنس ولا من قومية ولا من حدود جغرافية أو طبقية.
المثل الأعلى بشموليته يوحّد البشرية ولكن المثل العليا المنخفضة تجزئ البشرية وتشتت البشرية، انظروا إلى المثل الأعلى كيف يقول: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء/ 92)، (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (المؤمنون/ 52)، هذا هو منظق شمولية المثل الأعلى التي لا تعترف بحد وبحاجز في داخل هذه الأسرة البشرية، انظروا، استمعوا إلى المثل المنخفض، إلى مجتمع الظلم وآلهة مجتمع الظلم يقولون، أو كيف يتحدث عنهم القرآن الكريم (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا) (القصص/ 4)، فرعون المثل الأعلى المنخفض، الفرعونية على مرّ التاريخ التي تبني العلاقات بين الإنسان وأخيه الإنسان على أساس الظلم والاستغلال، الفرعونية تجزئ المجتمع، تبعثر امكانيات المجتمع وطاقات المجتمع، ومن هنا تهدر ما في الإنسان من قدرة على الإبداع والنمو الطبيعي على ساحة علاقات الإنسان مع الطبيعة، وعملية التجزئة الفرعونية للمجتمع تقسم المجتمع إلى فصائل وجماعات؛ الجماعة الأولى ظالمون مستضعفون، هذه الجماعة الأولى في التقسيم الفرعوني هم الظالمون المستضعفون، في نفس الوقت الظالمون الثانويون أو بحسب تعبير أئمتنا – عليهم الصلاة والسلام – "اعوان الظلمة" هؤلاء الظالمون المستضعفون يشكلون حماية لفرعون وللفرعونية وسنداً في المجتمع لبقاء الفرعونية واستمرار وجودها واطارها. قال الله سبحانه وتعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) (سبأ/ 31). هنا القرآن يتحدث عن الظالمين يقول: (إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ) لكن الظالمين صنفهم إلى قسمين: إلى من استضعف منهم ومن استكبر منهم. إذن فالظالمون فيهم مستكبرون وهم الذين يمثلون الفرعونية في المجتمع وفيهم مستضعفون.
فالطائفة الأولى إذن في التجزئة الفرعونية لمجتمع الظلم هم الظالمون المستضعفون، هؤلاء الذين يحشرون يوم القيام في زمرة الظالمين ثمّ يقولون للمستكبرين من الظالمين لولا انتم لكنا مؤمنين، هذه هي الطائفة الأولى التي تشكل الحماية والسند للفرعونية.
الطائفة الثانية في عملية التمزقة الفرعونية لمجتمع الظلم ظالمون يشكلون حاشية ومتملقين، أولئك الذين قد لا يمارسون ظلماً بأيديهم بالفعل ولكنهم دائماً وابداً على مستوى نزوات فرعون وشهوات فرعون ورغبات فرعون يسبقونه بالقول من أجل ان يصححوا مسلكه ومسيرته. قال الله سبحانه وتعالى: (وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) (الأعراف/ 127)،شكلوا دور الاثارة لفرعون، هؤلاء كانوا يعرفون انّهم بهذا الكلام يضربون على الوتر الحساس في قلب فرعون، وان فرعون كان بحاجة إلى كلام من هذا القبيل، فتسابقوا إلى هذا الكلام لكي يجعلوا فرعون يعبر عما في نفسه ويتخذ الموقف المنسجم مع مشاعره وعواطفه وفرعونيته.
الطائفة الثالثة في عملية التجزئة الفرعونية لمجتمع الظلم أولئك الذين عبر عنهم الإمام عليّ (ع) "بالهمج الرعاع" جماعة هم مجرد آلات مستسلمة للظلم، لا تحس بالظلم، لا تدرك إنها مظلومة ولا تدرك ان في المجتمع ظلماً، هي آلات تتحرك آلياً، تحركاً يشبه التحرك الميكانيكي للآلة، تحرك التبعية والطاعة دون تدبر، دون وعي، سلب فرعون منها تدبرها، عقلها، وعيها، ربط يدها به لا عقلها به، ولهذا فهي تحرك يدها تحريكاً آلياً وتستسلم للأوامر، للأوامر الفرعونية دون أن تناقشها حتى دون ان تتدبرها، حتى بينها وبين نفسها لا بينها وبين الآخرين، هذه الفئة طبعاً تفقد كل قدرة على الابداع البشري في مجال التعامل مع الطبيعة، تفقد كل قابليات النمو لأنها تحولت إلى آلات، إذا وجد أن هناك ابداعاً في هذه الفئة إنما هو ابداع من يحرك هذه الآلات، ابداع تلك الفرعونية التي تحرك هذه الآلات، وأما هذه الفئة فلم تعد أناساً وبشراً يفكرون ويتدبرون لكي يستطيعوا أن يحققوا لوناً من الابداع على هذه الساحة. قال الله سبحانه وتعالى: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا) (الأحزاب/ 67)، لا يوجد في كلام هؤلاء ما يشعر بأنهم كانوا يحسون بالظلم أو كانوا يحسون بأنهم مظلومون وانما هو مجرد طاعة، مجرد تبعية، هؤلاء هم القسم الثالث في تقسيم مولانا أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام حينما قال: "الناس ثلاثة: عالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع ينعقون مع كل ناعق"، وهذا القسم الثالث يشكل مشكلة بالنسبة إلى أي مجتمع صالح، وبقدر ما يمكن للمجتمع الصالح أن يستأصل هذا القسم الثالث بتحويله إلى القسم الثاني، بتحويله إلى متعلم على سبيل النجاة على حد تعبير الإمام، إلى تابع باحسان على حد تعبير القرآن، إلى مقلد بوعي وتبصر على حد تعبير الفقه، بقدر ما يمكن تحويل هذا القسم الثالث إلى القسم الثاني يمكن للمجتمع الصالح أن يستمر وأن يمتد، ولهذا كان من ضرورات المجتمع الصالح في نظر الإمام (ع) هو شجب هذا القسم الثالث، هؤلاء همج، رعاع ينعقون مع كل ناعق، ليس لهم عقل مستقل، وارادة مستقلة. كان الإمام (ع) يرى انّ هذا القسم الثالث يجب تصفيته من المجتمع الصالح، ذلك لا بالقضاء عليه فردياً، بل بتحويله إلى القسم الثاني ضمن إحدى الصيغ الثلاث التي ذكرناها، لكي يستطيع المجتمع الصالح أن يواصل ابداعه، ولكي يستطيع كل أفراد المجتمع الصالح، أن يشكلوا مشاركة حقيقية في مسيرة الابداع. وخلافاً لذلك الفرعونية، الفرعونية تحاول أن توسع من هذا القسم الثالث، هؤلاء الهمج الرعاع الذين ينعقون مع كل ناعق تحاول الفرعونية ان توسع منهم وكلما توسعت هذه الفئة أكثر فأكثر قدمت المجتمع نحو الدمار خطوة بعد خطوة لأنّ هذه الفئة لا تستطيع بوجه من الوجوه أن تدافع عن المجتمع إذا حلت كارثة في الداخل أو طرأت كارثة من الخارج، فكلما توسعت هذه الفئة، هذا القسم الثالث، هؤلاء الذين ينعقون مع كل ناعق، كلما توسعوا في المجتمع ازداد خطر فناء المجتمع وبهذا تموت المجتمعات موتاً طبيعياً.
مفهوم الموت لدى القرآن للمجتمعات وللأقوام وللأمم الموت الطبيعي للمجتمع لا الموت المخروم. المجتمع له موتان: موت طبيعي وموت مخروم. الموت الطبيعي للمجتمع يكون عن طريق توسع هذه الفئة الثالثة وازديادها نوعياً وعددياً في المجتمع إلى أن تحل الكارثة فينهار المجتمع. هذه الطائفة الثالثة في عملية التجزئة الفرعونية.
أما الطائفة الرابعة: هم أولئك الذين يستنكرون الظلم في أنفسهم، أولئك الذين لم يفقدوا لبهم أمام فرعون والفرعونية فهم يستنكرون الظلم لكنهم يهادنونه يسكتون عنه فيعيشون حالة التوتر والقلق في أنفسهم، وهذه الحالة، حالة التوتر والقلق أبعد ما تكون عن حالة تسمح للإنسان بالإبداع والتجديد والنمو على ساحة علاقات اإنسان مع الطبيعة. هؤلاء يسميهم القرآن الكريم (ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ)، قال الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا...) (النساء/ 97)، هؤلاء لم يظلموا الآخرين، ليسوا من الظالمين المستضعفين كالطائفة الأولى، وليسوا من الحاشية المتملقين، وليسوا أيضاً من الهمج الرعاع الذين فقدوا لبهم بل بالعكس هم يشعرون بأنهم مستضعفون. (قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ) هؤلاء لم يفقدوا لبهم، يدركون واقعهم ولكنهم كانوا عملياً مهادنين ولهذا عبر عنهم القرآن بأنّهم ظلموا أنفسهم، هذه الطائفة هل يترقب منها أن تساعد بابداع حقيقي في مجال علاقات الإنسان مع الطبيعة؟ طبعاً كلا.
الطائفة الخامسة في عملية التجزئة الفرعونية للمجتمع هي: الطائفة التي تتهرب من مسرح الحياة، تبتعد عن المسرح وتتهرب منه وتترهب. وهذه الرهبانية موجودة في كل مجتمعات الظلم على مرّ التاريخ وهي تتخذ صيغتين: الأولى صيغة جادة، رهبانية جادة تريد ان تفر بنفسها لكي لا تتلوث بأوحال المجتمع، هذه الرهبانية الجادة التي عبر عنها القرآن الكريم بقوله: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا) (الحديد/ 27)، هذه الرهبانية يشجبها الإسلام لأنّها موقف سلبي تجاه مسؤولية خلافة الإنسان على الأرض. وهناك صيغة مفتعلة للرهبانية، يترهب ويلبس مسوح الرهبان ولكنه ليس راهباً في اعماق نفسه، وانما يريد بذلك ان يخدر الناس ويشغلهم عن فرعون وظلم فرعون ويسطو عليهم نفسياً وروحياً.
وهذا هو الذي عبر عنه القرآن الكريم بقوله: (إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ...) (التوبة/ 34).
الجماعة السادسة والأخيرة في عملية التجزئة الفرعونية للمجتمع هم: المستضعفون. الفرعونية حينما جزأت المجتمع إلى طوائف، فرعون حينما اتخذ من قومه شيعاً إستضعف طائفة معينة منهم خصها بالاستضعاف والاذلال وهدر الكرامة لأنها كانت هي الطائفة التي يتوسم أن تشكل اطاراً للتحرك ضده ولهذا استضعفها بالذات. (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) (البقرة/ 49). هذه هي الطائفة السادسة وقد علمنا القرآن الكريم ضمن سنة من سنن التاريخ أيضاً ان موقع أي طائفة في التركيب الفرعوني لمجتمع الظلم يتناسب عكساً مع موقعه بعد انحسار الظلم، وهذا معنى قوله سبحانه وتعالى: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) (القصص/ 5). تلك الطائفة السادسة التي كانت هي منحدر التركيب يريد الله سبحانه وتعالى ان يجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين وهذه علاقة أخرى وسنة تاريخية أخرى يأتي الحديث عنها إن شاء الله تعالى.
إذن فإلى هنا استخلصنا هذه الحقيقة وهي: انّ المجتمع يتناسب مدى الظلم فيه تناسباً عكسياً مع ازدهار علاقات الإنسان مع الطبيعة، ويتناسب مدى العدل فيه تناسباً طردياً مع ازدهار علاقات الإنسان مع الطبيعة. مجتمع الفرعونية المجزأ المشتت مهدور القابليات والطاقات والامكانيات ومن هنا تحبس السماء قطرها، وتمنع الأرض بركاتها، واما مجتمع العدل فهو على العكس تماماً هو مجتمع تتوحد فيه كل القابليات وتتساوى فيه كل الفرص والامكانيات.
يتبع...
المصدر: كتاب المدرسة القرآنية
ارسال التعليق